مميز
EN عربي

الفتوى رقم #3654

التاريخ: 05/08/2025
المفتي:

مشروعية الحضرة، وكلام هام عن آدابها

التصنيف: الرقائق والأذكار والسلوك

السؤال

السلام عليكم ورحمه الله وبركاته شيخنا الفاضل ما هي دليل الحضرة الصوفية بعض الناس يقول ماهي دليل اعطوني دليل سيدي بدي منكم دليل الحضرة الصوفية من الكتاب والسنة ومن أقوال العلماء وهل يوجد كتاب يتحدث عن دليل الحضرة ؟ بارك الله فيك سيدي 

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام الأتمَّانِ الأكْملان على سَيِّدِ الذاكرين حبيبِ ربِّ العالَمِين ، وبعد ؛ فَإنَّهُ لا مُشَاحَّةَ في الاصطلاحِ ، وأَرى أَنْ يُوَضَّحَ السُّؤال بـــ {أدلَةِ مَجالِسِ الذِكْرِ} مِنَ الكتابِ والسُّنَّةِ ، فأَقُولُ وباللهِ التوفيق ؛ إنَّ جَوابَنا يَتَفَرَّعُ على عِدَّة مَسائلَ ؛

الأولى؛ الذكْرُ مِنْ قيامِ والجوابِ كامنٌ في قولِهِ تعالى : (ٱلَّذِينَ يَذكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَٰماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِهِم) ففيها ؛ جوازُ الذكْرِ قائماً بكلِّ أنواعِهِ ، وجاءَتْ بصيغَةِ الجَمْعِ. 

الثانية ؛ حِلَق الذِّكْر والجواب في قولِهِ صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الإمام أحمد وغيره : «إذا مَرَرْتُمْ بِرِياضِ الجَنَّةِ فارْتَعُوا» ، فَقالُوا : وما رياضُ الجَنَّةِ ؟ قال «حِلَقُ الذِّكْرِ» ، وفي الصَّحيحَيْنِ أنَّ النَّبيَّ صلى اللهُ عليه وسَلَّمَ يقولُ : «إنَّ للهِ مَلائكَةً سَيَّارينَ يَتَطَلَّبُونَ حِلَقَ الذِّكْرِ ، فإذا أَتَوا عليها حَفُّوا بها ، فيقولُ اللهُ : غَشوهم بِرحْمَتي ، فَهُمُ الجُلَساءُ لا يَشْقَى بِهِمْ جليسهم»

الثالثة ؛ الاجتماعُ على ذلِكَ ، فَفي حديث معاوية رضي الله تعالى عنه فيما أخرجه مسلم وغيره أنَّ رسولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسَلَّمَ خَرَجَ على حَلَقَةٍ مِنْ أَصحابِهِ ، فقال : «ما أَجْلَسَكُمْ ؟» قالوا : جَلَسْنا نَذْكُرُ اللهَ ونَحْمَدُهُ على ما هَدانا لِلإسْلامِ ، ومَنَّ به عَلَيْنا ، قال : «آللهُ ما أَجْلَسَكُمْ إلَّا ذاكَ ؟» قالوا : واللهِ ما أَجْلَسَنا إلَّا ذاكَ ، قال صلى اللهُ عليه وسَلَّمَ : «أَمَا إني لم أَسْتَحْلِفْكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ ، ولكِنَّهُ أتاني جبريل ، فأَخْبَرَني ، أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُباهِي بِكُمُ الملائكة»

الرابعة ؛ الحركةُ في الذكرِ ؛ إنَّما هيَ مَظْهَرٌ فِطْرِيٌّ نابِعٌ مِنَ الوَجْدِ الذي عُرِّفَ عن أَهلِ اللهِ بتعاريفَ جليلةِ متنوعة منها ؛ قولُ الإمامِ الشاطِبيِّ : الوَجْدُ رِقَّةٌ نَفْسِيَّةٌ ، وهِزَّةٌ قَلْبِيَّةٌ ، ونَهْضَةٌ روحانِيَّةٌ ، وهو ما كانَ يَبْدُو على جُمْلَةٍ مِنْ أصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، وهو البُكاءُ واقْشِعْرارُ الجِلْدِ التَّابِعِ لِلْخَوْفِ الآخِذِ بمجامِعِ القلوبِ ، وبِذلِكِ وَصَفَ اللهُ تعالى عبادَهُ في كلامِهِ حيثُ قال : (ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحسَنَ ٱلحَدِيثِ كِتَٰباً مُّتَشَٰبِهاً مَّثَانِيَ تَقشَعِرُّ مِنهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخشَونَ رَبَّهُم ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُم وَقُلُوبُهُم إِلَىٰ ذِكرِ ٱللَّهِ ذَٰلِكَ هُدَى ٱللَّهِ يَهدِي بِهِۦ مَن يَشَاُء وَمَن يُضلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِن هَادٍ)

وروى أبو نُعَيْمٍ في الحِلْيَةِ عن الفُضَيْلِ بنِ عياضٍ أنَّه قال : {كان أصحابُ رسولِ اللهِ صلى اللهِ عليه وسَلَّمَ إذا ذكَروا اللهَ تَمايَلُوا يَميناً وشمالاً كَمَا تَتَمايَلُ الشَّجَرُ بالرِّيحِ العاصِفِ إلى أمامٍ ، ثم إلى وراء}.

ولِسَيِّدنا عليٍّ رضي اللهُ تعالى عنه توصيفٌ لأَصحابِ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسَلَّمَ دَقيقٌ ؛ فقد أخرجَ أبونُعَيْمٍ وابنُ عساكرَ ، وابنُ كثيرٍ في البدايةِ والنِّهايَةِ قال : فَإذا أَصْبَحُوا ، فَذَكَروا اللهَ تعالى مادُوا كَمَا يَميدُ الشجرُ في يومِ الرِّيحِ ، وهَمَلَتْ عُيُونُهمْ حتى تَبَلَّ ثِيابَهم.  

هذا ؛ وما يَجْدُرُ ذِكْرُهُ قولُ الإمامِ ابنِ القَيِّمِ في كتابِهِ {مدارج السالكين} ؛ الوَجْدُ ما يُصادِفُ القَلْبَ ، ويَرِدُ عليه مِنْ وارِداتِ الْمَحَبَّةِ والشَّوْقِ والإجْلالِ ، والتَّعْظِيمِ وتوابعِ ذلكَ ، والمواجيدُ فَوْقَ الوَجْدِ ، فَإِنَّ الوَجْدَ مُصادِفٌ ، والمواجيدُ ثمراتُ الأَوْرادِ.

ويَحْضُرنا ههُنا الحالُ الذي اعتَرى الأَحْباشَ لَمَّا رأَوْا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَفِي مُسْنَدِ الإمامِ أحمدَ وابنِ حِبَّان بَسَنَدٍ صحيح عن أنسٍ قالَ : كانَ الحَبَشُة يَرْقُصُونَ بَيْنَ يَدَيْ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسَلَّمَ ويقولونَ بكلامٍ لَهُمْ -أي : بلغتهم- : محمدٌ عبدٌ صالحٌ ، فقالَ صلى الله عليه وسلم : «ماذا يقولون ؟» فقيل: يقولونُ محمدٌ عبدٌ صالحٌ.

وكذا في الصَّحيحَيْنِ عن أُمِّنا عائشةَ رضي اللهُ تعالى عنها قالتْ : رأيتُ رسولَ اللهِ يوماً على بابِ حُجْرَتِي ، والحَبَشَةُ يَلْعَبُونَ في المسجدِ .... إلى أَنْ قالتْ : وهو صلى الله عليه وسلم يقولُ: «دونَكُمْ يا بَني أَرْفِدَةَ» -أي : مِنْ أَجْلِ أَنْ تَنْظُرَ إليهم- قالت : حتى إذا مَلَلْتُ -أي اكْتَفَيْتُ- قال : «حَسْبُكِ» ، وكانتْ تَنْظُرُ مِنْ خَلْفِ ظَهْرِهِ الشَّريفِ صلى الله عليه وسلم واضِعَةً ذَقَنَها على كَتِفِهِ الشريف.

قال الحافظ ابن حجر في معنى : «دونَكم يا بَنِي أَرْفِدَةَ» بالنَّصْبِ على الظَّرْفِيَّةِ بمعنى الإغْراء ، والْمُغْرَى به مَحْذُوفٌ ، وهو لَعِبُهُمْ بالحِرابِ ، وفيه إذْنٌ وتَنْهِيضٌ لهم وتَنْشيطٌ.

الخامسة ؛ أَنَّ لِمَجالِسِ الذِّكْرِ آداباً قَرَّرَها العلماءُ الرَّبَّانِيُّون ؛ مِنْ أَهمِّها ؛ ذِكْرُ اللهِ بالاسْمِ الكامِلِ دونَ حَمْحَمَةٍ أو هَمْهَمَةٍ ، وأَنَّ التَّمايُلَ بِمُلايَنَةٍ دونَ تَكَسُّرٍ كَتَكَسُّرِ النِّساءِ ، ودون صُراخٍ متعمَّدٍ لا يُتَرْجِمُ إلا الهوى والرُّعُونَةَ النَّفْسِيَّةَ ، بل بِحُضُورٍ شُهودِيٍّ كامِلٍ ومُراقَبَةٍ لائقة با سمه الرقيب سبحانه على مَدْلُولِ قولِهِ صلى اللهُ عليه وَسَلَّمَ في الصحيحِ لَمَّا عَرَّف ركْنَ الدِّينِ الثالِثِ الإحسان : «أَنْ تَعبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَراهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَراهُ فَإنَّهُ يَراكَ» ، لِيَجْمَعَ سبحانَهُ قَلْبَهُ عليه جلالاً وجمالاً ، وهنا القول بأنَّ الْمَقْصُودَ باصْطلاحِ {الحَضْرَةِ} إنَّما هُوَ الحُضُورُ بالْمَذْكورِ سبحانه وتعالى شهوداً ومراقبة ، ولِسانُ الحالِ مِنْكَ يقولُ : اللهُ رَبِّي ، اللهُ ناظِرِي ، اللهُ مُطَّلِعٌ عَلَيَّ ، يَعْلَمُ سِرِّي وأَخْفَى.

قلت : والكلامُ في ذلِكَ لا يَنْتَهِي ، فَأَدِلَّتُهُ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى وتُحْصَر ، ولَكَ الرُّجُوعُ إلى العديدِ مِنَ الْمَراجِع {كالْمَجْمُوعَةِ اليُوسفية} لِفَضيلةِ الشيخِ يوسُفَ خَطَّار محمد أدامَ اللهُ تعالى نَفْعَهُ ، فَفِيها مِمَّا عَرَضْتُهُ عليكَ وزِيادَة ، فَهِيَ بِحَقِّ مَوسُوعَةٌ واسعة جَمَعَتْ أَدِلَّةَ السَّادَةِ القوم رضي الله تعالى عنهم كَّلَّها تحتَ عَناوينِها بِطَريقَةٍ سَلِسَةٍ مِنَ السَّهْلِ الْمُمْتَنِعِ هي مَجموعَةٌ واسِعَةٌ جَزى اللهُ تعالى جامِعَها خَيرَ الجَزاءِ ، ومِنَ الْمراجِعِ الْمُعاصِرَةِ النافعة أيضاً كتاب {حقائق عن التصوف} لسيِّدِي العالِمِ العارِفِ العَلَّامَةِ الشيخِ عبدِ القادِرِ عيسى رحمه اللهُ تعالى وأَجْزَلَ لَهُ الْمَثُوبَةَ بما هو أَهْلُهُ.

ثم لِنَعْلَمْ أَنَّ قَضِيَّتَنا مَنُوطَةٌ بالدَّليلِ لا بالْمِزاجِ والهوى ، ومُتَعَلِّقَةٌ بالضَّبْطِ والفَهْمِ مع التَّجَرُّدِ الخالِصِ لَحَظاتِ الجوابِ أو الحوارِ على قاعدة ؛ {إنْ كُنْتَ ناقِلاً فَالصِّحَّةِ ، أَوْ مُدَّعِياً فَالدَّليل}، فَكَمْ مِمَّنْ يُعْرِضُ مستكبراً بِعُنْصُرِ الهوى ، ومَعْلُومٌ أنَّ ذلكَ لا يَكْفي دليلاً ولا يُغْنِي.  

وعليه ؛ فَنَصِيحَتِي لَكَ أخي الكَريم أنْ تُعْرِضَ ذَوِي الهوى ، فإنَّهم أصحابُ جَدَلٍ لا حِوارٍ ، ولا يُعَدُّون باحِثِينَ عن الحقيقةِ وذلك لعدم التجرد ، بل مدافِعِينَ عنْ فِكْرٍ مُعَيَّنٍ يَتَبَنَّوْنَهُ ليس إلَّا ، فإياكَ ، وإيَّاهم ، بل عليكَ التَّحذيرُ مِنْهُمْ لأَنَّهُمْ رُوَّادُ فِتْنَةٍ وتَمْزيقٍ ، لا جَمْعٍ وتَوحيد.

نعم ؛ إنَّ هنالِكَ مِنَ الْمُتَمْصِوَفِة -الأدعياء- الجاهِلِينَ لضَوابِطِهِ وآدابِهِ يخالِفْونَ عنها بِتَصَرُّفات يَأْباها الْمَنْهَجُ الحَقُّ الذي عَلَيْهِ أهلُ الطريقِ مِنَ العلماءِ الْمُحَقِّقِينَ كلَّ الإباء ، فمن المخالفين البلاءُ كل البلاء لِما يُظَنَّ لدى مَنْ لايَدْري ، أنَّهُ الطريقُ بِعَيْنِهِ فَيُنِيحُ باللَّائِمَةِ على أَهْلِهِ ، -وأهله من ذلك براء- وربَّما أَكَلُوا لحومَ كِبارِ أولياءِ الأُمَّةِ مِمَّنْ سَلَفَ وخَلَفَ كالإمامِ الجُنَيْدِ والقُشَيْرِي والشَّعراني وأبي مَدْين وزَرُّوق والهاشِمِيِّ بسببِ ذَلِكَ. 

ألا فَلْنَعْلَمْ أنَّ العَملَ بالطريق لا يُقْبَلُ إلَّا مُشَيَّداً بالكتابِ والسُّنَّةِ كَما أشاروا رضي الله تعالى عنهم بقولهم : {طَرِيقُنا هذا مُشَيَّدٌ بالكتابِ والسُّنَّةِ} ، وكذا بِعَمَلِ الصحابَةِ الكِرامِ والسَّلَفِ الصَّالِحينَ مِنَ الرَّعِيلِ الأَوَّلِ رضي اللهُ تعالى عنهم أجمعين.

فاللَّهُمَّ ارْزُقْنا الفَهْمَ وعَلِّمْنا ما يَنْفَعُنا ، وانفعنا بما تعلمنا ، وعَرفْنَا حَقائِقَ الوُصولِ وحَقِّق لَنَا الْمَأْمُولَ بِحُرْمَةِ السَّيِّدِ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم ، ولا تَحْرِمْنا القَبُولَ ، وأَعِذْنا مِنَ الْمُعَوِّقِينَ قُطاَّعِ الطَّريق يا قريب يا مجيب. والحمد لله رب العالمين.

وفقك الله تعالي ونور قلبك وثبتك بقوله الثابت ،

لا تَنْسَنِي مِنْ خالِصِ دَعواتِكَ باركَ اللهُ تعالى بِكَ وسَدَّدَ خُطاكَ.